عزيزي الذي يقرأ،
الأسئلة كلها تملك إجابة واحدة...
أحاول منذ مدّة أن أكسرَ معتقل
الشعور بالكتابة، لا أدري إن تكوّرت على نفسها في جوفي بإرادةٍ منها أو حشرها أمرٌ
ما هناك، الأمر الوحيد المؤكد أنها معتقلة وأن الركود في سجنها يطيب لها، لم تعد
تتحايل على النورِ في المقل أو في أعلى الثغر. تجلسُ بحزنٍ رتيب جميل في القاع،
تتقلب ذات اليمين وذات الشمال لئلا يتجاوزها، مثلما فعلَ غيره، مجرى الدم.
هناك من يدّعي أن التعبير باللغة
المحكيّة أكثر مصداقيّة لما في القلب وأقربُ شكلًا لما نُحِتَ فيه من خدوش،
فالفصيحة ليست السهم الأول الذي يشحذه العقل إن أرادَ أن يُصيبَ أو يُطبب. لكنّي أظن
بأن ما يعتري معتَقلي الصغيرَ من شعور يليقُ به لغة مختلفة، مفرداتها ليست في
متناول الجميع. كلماتٌ تعتصرُ الخلايا ذاتها لتلدها... وأنا، لا زلتُ أحاول تعجيل
المخاض رغم علمي باحتماليّة تشويه الخليقة.
بيدّ أنّ لا بأس... فالولادات من
كل الأصناف تملك إجابة واحدة...
اعتدتُ دائمًا على الجلوس في طرف
اللحظات، حتى عندما تكون لحظتي أنا، أجلسُ في الطرفِ أرقبُ الزحام كله، اللا أحد،
وأستخرجُ منه نظرياتٍ ومفاهيمَ لا يسمعها غيري، أركلها لسوادِ الليل لألهيه عن
الامتزاج بي... وأكمل أنا جلوسي في الطرف صامتة. راضية.
لم يأبه بي أحد، ولم يُدرك أحدُ
من قبل جلوسي في الطرف، حتى في لحظتي أنا، وظنّ اللا أحد قصيرُ النظر فاقدُ
البصيرة أن هذا العالم الواسع\ الضيق\ الرحب\ الخانق الذي يدور حوله قد منحه من
سعته\ صغر يده لحظةً إضافيّة ودورةً جديدة في مجرّاته.
بيدَ أنّ لا بأس... فالدورات كلها،
مهما عظمت أو صغرت، تؤول نحو إجابة واحدة...
لا أدري، عزيزي الذي يقرأ، كيف
نُجبِرُ شيئًا ما ظاهريًا ملموسًا صنيعَ البشر أن يُعبّر عمّا لا يحتملُه الجسد
فيطمره في الروح. وكيف نقوى بكل الأنانيّة والجشع على محاولة تشكيله في قوالب
ومسميّات سحيقة تُلائم نوافذ العقل وضآلته. وكيف تأتي كلمةٌ واحدة وتقلبُ كل هذه
المقاييس والمكاييل والاعتبارات على الرغم من أنها تحومُ طوال الوقتِ فوق رأسنا...
لا أدري، عزيزي، لماذا لا تستطيعُ
كل هذه التكنولوجيا الحديثة والاختراعات التي تطفو على سطوح الوقت وتغمرُ كلّ ما
دونها أن تُخلّد ما يستحق البقاء حقًا. كصوتِ أحدهم وهو يقول كم اشتاق لنا، عجلات
المركبة وهي تعلن سلطتها فوق الاسفلت بسفرٍ منشودٍ للوطن، صوت الانفجار البعيد عن
المنزل – ذاك الذي أدركه واحدٌ أخير- رائحة باطن يده أو ملمسها، لون شعره، عدد
التجعيدات في مُحيّاه... الذاكرة عصيّة على سيدها كما تعلم، الأشياء التي نحيا بها
هي أول ما يتفلّت من خزائنها، كل التقنيّات الحديثة تقف عاجزةً أمام استحضار صورة
بحجم الحُب، وكأن حاجة الكون بالاستمرار تهتزّ إن أخرجناها من مخبئها، فتعاقبُنا
بتلاشٍ تدريجي مثلما ينسحبُ خيط الضوء وراء غيمة.
بيدَ أنّ لا بأس... فكل الرغباتِ والأسباب تنحني أمام إجابةٍ واحدة...
الموت.